وداعاً أبي…
شكل موت أبي في حادث سير مروع مأساة كبيرة لي ولعائلتي حيث كانت تربطنا به علاقة صداقة أكثر من علاقة أب مع أبنائه نظراً لصغر سنه ولروحه المرحه المحبة للحياة.
لذلك أدعو الله أن لا تتكرر مأساتي هذه مع أي عائلة في العالم.
.jpg)
لم ندر أنها كانت المرة الأخيرة لنا التي نتناول فيها طعام الغذاء معاً قبل أن يرحل عنا بعيداً!..
كان والدي يريد أن يرسل ل " لمياء" شقيقتي الكبرى المقيمة في دولة الإمارات العربية "زيت الزيتون" بواسطة إحدى حافلات الشحن في البقاع. كان يحب كل بقعة من لبنان حباً كبيراً ولا سيما البقاع، وهو إبن الجنوب .
بابا أين سنقضي يوم غد الأحد؟ كان جوابه الدائم "البقاع"، لماذا كان البقاع الأحب إلى قلبه؟ هل كان يعلم أن مشواره الأخير في رحلة الحياة سيكون إلى هناك؟
هو محسن ضاهر، والدي الذي ظن جميع من عرفه أنه سيبقى بينهم طويلاً ولم يخطر على بال أحد أنه سيكون ضحية أخرى من ضحايا حوادث السير الأليمة.
إنه الأصغر بين أعمامي، كان في الثانية والخمسين من العمر. كنا نزور قريتنا الجنوبية "عربصاليم" التي ترعرع فيها صغيراً، وكان كلما سأله أحد من أهالي القرية عنا نحن أفراد عائلته المؤلفة من والدتنا وأربع فتيات وشاب واحد، يجيبه ممازحاً أننا أصدقاؤه فهو ما زال صغيراً.
هل هو القدر؟ أبي الذي بقي في لبنان رافضاً مغادرته طيلة أوقات الحرب مردداً دوماً سنبقى هنا لن نرحل.
لن ترحل والدي، ستبقى؟
بل هي ذكراك التي ستبقى معنا مهما حيينا…
ربما في السابق لم تكن عبارة "حادث سير" توحي لي شيئاً أو حتى لأبي الذي كان ماهراً في قيادة السيارة. كان يردد على مسامعنا باستمرار: "يجب أن لا تنتبه فقط إلى نفسك أثناء القيادة، بل يجب أن تنتبه إلى الآخرين أيضاً وتقود عنهم لأن هناك كثير من السائقين ممن لا يدركون مبادىء القيادة الآمنة".
ولكن عذراً أبي، لقد غاب عنك حقيقة هامة وهي أن طرقاتنا غير آمنة!.. لا أدري كيف يمكن أن تكون هناك طرق غير مُنارة وكيف أن طرقاتنا تفتقر إلى ممرات وجسور المشاة!.. ولكن للأسف يبدو أننا نعيش في بلد لا قيمة للفرد فيه!...
ليل الإثنين الواقع في 15-1-2007، أوقف والدي سيارته قرب محطة للوقود في جو ماطر وطلب من صديقه الذي كان برفقته أن ينتظره قليلاً ريثما يعبر مشياً إلى المسلك المعاكس من الطريق ويتأكد من أن الشاحنة المتوقفة على الطرف الآخر هي الشاحنة المقصودة لإرسال زيت الزيتون بواسطتها. فلما تبين لوالدي أنها ليست هي، أراد العودة إلى سيارته، فعبر أول مسلك بأمان، ولكنه لم يُفلح في عبور المسلك الثاني حيث صدمته سيارة مسرعة يقودها شاب في مقتبل العمر. مات والدي على الفور، بينما أصيب سائق السيارة إصابة طفيفه ..

يا إلهي! إنها العاشرة مساءً ووالدي لم يعد إلى البيت بعد، لقد تأخر على غير عادته ولم يتصل بنا وهاتفه النقال لا يجيب على اتصلاتنا المتكررة، لا بد أن خطب ما قد حدث لا سيما وأن الأقارب والأصحاب والجيران بدؤوا بالتجمهر حول بيتنا حيث كانوا قد علموا بالمصيبة التي وقعت وهم في حيرة من أمرهم عن الطريقة التي سيخبروننا بها. لم نصدق الأمر، لقد نزل علينا الخبر نزول الصاعقة.. هذا كل ما أذكره عن تلك اللحظة. مضى أربعة أشهر على وفاته لغاية الآن وما زلنا غير مصدقين أنه غادرنا في رحلة طويلة دون قبلة حنان أو حتى كلمة ونظرة وداع....
لا أدري ماذا أقول عن أبي! كانت حياته مفعمة بالمحبة والعطاء والتفاؤل، وأنا ابنته غنوة "المدللة" التي كان يحبها كثيراً كما كان يحب كل فرد من أفراد عائلته التي هي بدورها بادلته هذه المحبة، وكان محباً للحياة يعشق المغامرة والمخاطرة معاً، كم كان يختزن في ذاكرته من صور جميلة للحياة.
كان أبي معطاءً يراعي شعور وخواطر الآخرين ومندفعاً في خدمتهم، فشعاره الدائم كان "يجب أن تبادر إلى تقديم ما استطعت للفقراء والمحتاجين قبل أن يُطلب منك ذلك وإلا، فإن عطاءك لا قيمة له واكتم ذلك حفاظا على المشاعر، فعذراً والدي على إعلاني ما أردتَ كتمانه.
لا أستطيع أن أصف والدي أكثر أو أن أصف حالتي وحالة عائلتي بعد فقدنا له، فكلماتي تبقى عاجزة عن التعبير مهما بَلغَتْ بي البراعة والبلاغة!....
أبي، لقد طال غيابك، الجميع اشتاق لك، فجلسات المساء غابت معك كما غاب العطف والحنان.
أبي، حفيدك الأول رامي إبن الثلاث سنوات يسأل دائماً عنك "وين جدو"؟ فيجيب نفسه " بح" ويشير إلى صورتك قائلاً "هيدا جدو".
فروحك الطاهرة ما تزال تخيم على أرجاء كل زاوية من زوايا المنزل والحي.
كان ذهاب والدي المفاجىء أكبر خسارة لي وأقسى تجربة تعرضت لها في حياتي، ومن هنا كان انضمامي إلى "اليازا" علني أساهم عبر تجربتي المأساوية في الحد من حوادث السير ولفت نظر كل العائلات في وطني إلى أن المحافظة على الأرواح وخاصة أرواح من نحب لا تأتي على طبق من فضة، بل إن ذلك يتطلب التفكير العميق بالمسألة والعمل الجاد المرتكز على المبادىء العلمية من قِبَل الجميع مسؤولين ومجتمع أهلي. إن الذي يموت في حادث سير يُخطف من بين أحبائه خطفاً دون مقدمات، والذي يزيد من المأساة أن هذه الحوادث يمكن تفاديها بكل بساطة فيما لو طُبقت أسباب الوقاية منها كما هو حاصل في كثير من دول العالم المتحضر. إنني أنا غنوة المفجوعة بأبيها أناشد كل أبناء وطني الأحباء فرداً فرداً بكل لهفة وإخلاص وأقول لهم أنه ما زال أمامكم متسع من الوقت لأخذ العبرة وتحكيم المنطق والعقل والتصرف الفوري للقضاء على هذا التهديد اليومي قبل فقد الأحبة.
في النهاية، أبي لن ننساك أبداً وستبقى معنا شعلة مضيئة، فإسمك محسن وهو إسم على مُسمى، كما لن ننسى كل من ذهب ضحية سير.
وداعاً أبي..