صادق نسر: حلمي ربط شريط حذائي!
المسيرة
01 آب 2009

حصل ذلك في 25 آب 2006. قد يكون تاريخ ولادة صادق نسر من جديد، لكن بمقدار لم يحلم به يوما.
في العام 2000 سافر صادق إلى بريطانيا، وتحولت حياته إلى ما يشبه الحلم. "عملت موظفا في مديرية الأمن العام، وكنت أمارس رياضة الملاكمة وأملك دراجة نارية ومنزلا. حياتي كانت أشبه بالحلم".
عندما اندلعت حرب تموز كان صادق في زيارة لأهله. لكن ظروف عمله اضطرته إلى مغادرة البلاد برًا لأن حركة الطيران كانت متوقفة. ويروي صادق من على كرسيه المتحرك في منزل أهله في الأشرفية حيث يزورهم اليوم، أنه قصد موقف السيارات العمومية السورية وحجز مع أخيه لدخول الأراضي السورية والسفر عبر مطار دمشق. "فجأة اكتشف أخي الذي يصغرني بعامين أنه نسي جواز سفره في المنزل، فطلبت منه أن يلحقني في سيارة عمومية أخرى حتى لا نخسر المزيد من الوقت، خصوصا أن الوضع الأمني كان أكثر من حرج، والقصف يطال كل الجسور والتقاطعات الرئيسية. جلست في المقعد الأمامي إلى جانب السائق ووضعت الحقيبة وراء السائق مباشرة. عندما اقتربنا من مطار دمشق الدولي وتحديدا قبل مسافة كيلومترين، ترجّل السائق من السيارة وفتح غطاء المحرك.

لم أفهم شيئا خصوصا أنني لم ألاحظ حصول أي عطل في السيارة، فسألته إذا كانت هناك من مشكلة، فأوضح أنه اضطر منذ فترة إلى تغيير محول السيارة من البنزين إلى الغاز، علما بأن هذا يعتبر مخالفة ويتسبب بحبس الجاني مدة 5 سنوات وإلزامه بدفع غرامة مقدارها 150 ليرة سورية. وقال أنه برم قنينة الغاز لتسريع المحرك. ولم أعلم في حينه أنني كنت على مسافة 3 دقائق فقط من الموت".
وبمجرد أن وضع السائق قدمه على البنزين حتى انطلقت السيارة بسرعة جنونية وصلت إلى 140 كيلومترًا. طلبت منه أن يخفف السرعة. وعندما حاول"تلحيس الفرامل" بدأت السيارة تدور على نفسها لأنها من الحجم الصغير. وشعرت بأن انفجارا ما حصل داخل المحرك، فانشطر الزجاج الأمامي من دون أن يتحطم وطرت من السيارة على الأوتوستراد الثاني وارتطمت رقبتي بالعازل الذي يفصل بين الأوتوسترادين. ومن حينه عرفت أن رقبتي انكسرت".
العناية الإلهية أبقت صادق واعيا. "طلبت منهم ألا يجروني من منتصف الطريق، لكنهم فعلوا. كنت أعض على شفتي حتى لا أفقد وعيي، إلى درجة أن الطبيب الذي رآني عندما وصلت إلى المشفى في سوريا لم يصدق المشهد بسبب الإزرقاق والتشققات العميقة. كنت واعيا كل ما يدور من حولي والألم ينهش عظامي. في هذه الأثناء لاحظت أن السائق بقي واقفا إلى جانب الطريق وكأنه كان ينتظر أن أموت حتى لا يفتضح أمره. وبعد مرور ساعتين تأكد من استحالة وفاتي، فطلب سيارة أجرة وليته لم يفعل لأن الوضعية التي أجلسني فيها في السيارة تسببت بضغط إحدى عظمات العمود الفقري على الدودة مما أدى إلى إصابتي لاحقا بالشلل الكلي، بحسب تقرير الأطباْء. عندما وصلت إلى "معضمية الشام" وهو أشبه بمستوصف لأن السائق خاف أن يتعرض للتحقيق في حال نقلي إلى أحد المستشفيات، سمعت أحد الأطباء يقول بعدما علم أنني أحمل الجنسية البريطانية: "اتركوه يموت عا مهلو". عندها أجبته أنا لبناني. فأصيب بالذهول وسألني إذا كنت أتكلم اللغة العربية. وطلبت منه إحضار هاتفي الخليوي وطلب الرقم الأخير المسجل وهو رقم والدتي التي كلمتها لحظة مغادرة الحدود اللبنانية ـ السورية. عندما سمعت صوتها شعرت بأنني سأنهار. لكنني تماسكت وأخبرتها بأنني تعرضت لحادث سير، فسألتني إذا كان لا بد من حضورها، فقلت لها: "أفضل تجي مع بيي". وعرفت أن مصيبة ما لحقت بي". ويتذكر صادق مشهد أهله عند وصولهم إلى المعضمية. "لن أنسى هذا المشهد خصوصا أنني كنت أصلي طول الوقت حتى لا أموت وحدي في سوريا ويتم دفني هناك. في النهاية كانت كلها مسألة ثوانٍ تفصلني عن الحياة. وفي هذه الأثناء تراءى أمامي شريط من الصور في مرحلة طفولتي، وكنت أصر على البقاء في كامل وعيي. وعندما وصلت أمي بدأت البكاء. لن أنسى هذا المشهد طول عمري".

عملية نقل صادق من سوريا إلى مستشفى الجامعة الأميركية استغرقت 12 ساعة. "وضعوني في كيس من النايلون بعد نفخه لتثبيت عظامي، وكانت السيارة تدبدب حتى لا تتحرك عظامي. أضف إلى ذلك أن وضع الطرق الرئيسية والأوتوسترادات التي تعرضت للقصف كان في حال يرثى له . وعندما وصلت إلى مستشفى الجامعة الأميركية شعرت بأنني سأعيش". بعد يومين من مكوث صادق في المستشفى خضع لأول عملية. "كان جسمي متورما مما حال دون تمكن الأطباء من إجراء العملية الأولى عند وصولي. عشت أياما من العذاب والآلام. ولم تنفع كل كميات المورفين التي كنت أحقن بها في تهدئة أوجاع العظم. وفي كل مرة كان يتم تحريكي حتى لا أصاب بالعقر كنت أشعر بأن أصغر شعرة في رموشي تتألم.
6 أيام لم يذق خلالها صادق النوم. "بقيت مستيقظا وأصارع بين الأمل الذي أردت أن أزرعه في عيون أهلي والألم الذي كان ينهش جسمي. لم أتمنَ الموت لحظة واحدة. لكنني اليوم أفكر بالشباب المهووس بالسرعة الذي يقول "إنها موتة" وأي ميتة؟ فالطب الحديث قادر على نبش الموتى من القبور، مما يعني أن الإصابة ستؤدي إلى إلإعاقة، وهنا المصيبة.

يخضع صادق الآن لجلسات في الطب الفيزيائي ويسير على كرسي متحرك متطور جدا. "ولو لم أكن أحمل الجنسية البريطانية لما تمكنت حتما من أن أعيش أو أكمل حياتي بأبسط حقوقي كإنسان. فكلفة العلاج وصلت إلى المليون و500 ألف دولار، وسعر الكرسي المتحرك يقارب 23 ألف دولار. والحمدلله أنني أقبض راتبي وإلا كانت المصيبة أكبر من ذلك بكثير".
بحسب الأطباء قد يتمكن صادق من الوقوف على العكازات بعد ثلاث سنوات، "لكنني أعترف بأنني خسرت الكثير. حلمي اليوم أن أتمكن من ربط شريط حذائي، وتنظيف أسناني وحيدا. أفكر كثيرا بأمي التي عادت تعاملني كطفل صغير عاجز حتى عن ارتداء سرواله. أما أخي فيقول إنه لن يتزوج وسينذر حياته لخدمتي". رسالتي إلى الشباب المهووس بالسرعة؟ "فكروا بعيون أمهاتكم التي ستنزف دما ودموعا سواء أصبتم بالإعاقة من جراء حادث سير أو توفيتم. وهل يرضى أحدكم بأن يصير حلم الإنسان أن يتمكن من ربط شريط حذائه وحده؟"
لمشاهدة الفيديو: